تهدئة؟ لا تهدئة؟ تمديد؟ لا تمديد؟ وساطات؟؟؟ ...وتنفجر الحرب صبيحة يوم سبتٍ يُحرَّم فيه العمل. "وما الحرب إلا ما عرفتم وذقتمُ - وما هو عنها بالحديث المرجَّم
ينهمر "الرصاص المصبوب" دفقا من السماء والبحر والبر، اثنين وعشرين يوما، لينتهي يومَ سبتٍ آخَر، وما بين السبتين شؤون وشجون... أما ميدان العمل والعمليات فتحجبه نهارا سُحُب الدخان الأسود الكثيف، وتضيئه ليلا شُهُبُ "ألعاب نارية"، اسمها الحقيقي، كما تعلّمناه لاحقا، الفوسفور الأبيض المنير. اما الأصوات فصريرٌ وصفير، وأزيز وهدير، ودويّ وزئير، وزمجرة الصواريخ والراجمات ودبابات الجنازير. وما بين ذلك كله سحق ومحق، وحطام وركام، وآلاف القتلى والجرحى، وبينهم مئات الأطفال الأبرياء، والنساء والمسنّون. وأشلاء متطايرة، وجثث متفحّمة، وبشر يُدفنون أحياءً تحت الأنقاض. أما الباقون على قيد الحياة، فقسم لا يزال يقاِتل، وآخرون يشرَّدون من بيوتهم، في العراء والزمهرير وتحت المطر، بلا طعام ولا ماء ولا دواء...وإلى أين يلجأون؟ فحتى سيارات الإسعاف، والصليب الأحمر الدولي، ومباني الأنروا ومكاتب هيئة الأمم المتحدة، بل حتى المقابر نفسها، كل ذلك تحت النار...
وضمير العالم في غفوة، والمجتمع الدولي في غيبوبة. أما العالم العربي، فإلى أن يأخذ علما بالأمر، وإلى أن يجري اتصالات ومشاورات، فالوقت متسع لديه: هل هناك ما يستأهل ان يجتمعوا لأجله أو لا، وإن كان لا بد من اجتماع، فأين؟ ومتى؟ وعلى أي مستوى؟ وما جدول الأعمال؟؟؟ وتعمّ التظاهراتُ العواصم والمدن والشوارع في العالم كله. وفجأة، وفي الأسبوع الأخير، أي بعد خراب البصرة، شعر القادة العرب أن لا بد من اللقاء، وعلى مستوى القمّة، وبأسرع ما يمكن. فراحوا يتسابقون في الدعوة اليها، فتكاثرت القمم وتضاربت، وازدحمت بها العواصم، وغصّت بها أجندات المواعيد. وأخيرا تمّت المعجزة الأولى والتقوا، وكانت قمة الكويت "التاريخية". التقوا بتحاذر. وفي جلسة الافتتاح، وعلى شاشات التلفزة، ولكن بأسلوب متأدّب مهذّب، تراشقوا بما لايقل حدة عن المعارك التي كانت تدور في الوقت عينه في غزة... ولكنْ بعد الجلسة كانت مأدبة الغداء، وفيها القى الساحر سحره، فإذا المعجزة الثانية الكبرى، وإذا البسمات و"العبطات" والقبلات تغمر الذين كانوا قبل لحظات يتراشقون. فتباشرَ العالم خيرا، خصوصا بعد أن رأوا أول "ألف مليون" دولار يتدحرج في صندوق التبرعات "لإعادة إعمار غزّة"، تليه أرباعُ فأنصافُ المليارات الأخرى. وفي مثل هذه الأجواء التفاؤلية، كانت عدوى التحرك قد وصلت الى مجلس الأمن، فبعد ثلاثة أسابيع من التأرجح والتردد، حسم أخيرا أمره لإصدار قرار بوقف إطلاق النار فورا. القرار غامض، ولكنْ ما همّ؟ المهم أن يصدر. ففي غمرة هذه النشوة العالمية، كان لا بد أيضا لأصحاب قمة الكويت التاريخية من صياغةِ وإصدار بيانهم الختامي، فإذا المفاجأة الجديدة، وإذا "الدف ينفخت" والعشّاق يختلفون، والمليارات تتبخر، إذ لا صندوق لاستقبالها، ولا مسؤولون لإدارتها وتوزيعها. وإذا أخيرا الستار يُسدَل على مأساة غزة وآلام بنيها، فيعودون إلى الرفش والمعول يحفرون القبور لدفن أشلاء موتاهم، وربما البعض يدفنون معها آخر أحلامهم وآمالهم. ولكن غزة الصابرة تستحق على الأقل زيارة من الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، فيقف على أطلالها، ويستنكر بغضب، ويشجب ويدين، ويطلب التحقيق في المجزرة ومعاقبة المرتكبين،. وينحني‘ ودمعة في عينيه لا يخفيها، فيرثي الموتى، ويعزّي الأحياء ، ويرجو الشفاء للجرحى، وليس ما يبرر أي شك في صدق مشاعره ونواياه.
***
ويأتي أخيرا ما يسهم في خطف الأضواء عن الموضوع، بتنصيب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة. لقد حضر حفلَ التنصيب في واشنطن ما يزيد على مليونَي شخص، اما متابعو الحفل على شاشات التلفزيون، فيمكن القول إنهم العالم كله. تكلم الرئيس الجديد بلباقةٍ فائقة. تكلم على أوليات اهتماماته، فذكر مكانة ودَورَ ومسؤولية بلاده، والأزمة الاقتصادية في أميركا والعالم، والتحديات التي تنتظره. تكلم على أفغانستان والعراق وغيرها من المناطق الساخنة، ولكنه لم يأت على أي ذكرٍ لا لغزة ولا للقضية الفلسطينية ولا للعرب وإسرائيل. أسهوًا كان ذلك؟ لا نظن. فقد شهد العالم كله وصفّق لبراعة خطابه، وإن كان بعض الخبثاء قد حلّل بأن نشوة العالم في هذا الاحتفال ليست ابتهاجا بمجيء الرئيس الجديد الذي لا نعرفه بعد، بل هي احتفاء بذهاب السلَف. وفي القول ما فيه، وهو على ذمّة الراوي,
***
ونحن أيضا لا نعرف بعد الرئيس الجديد، ولا الذي يريد أو يستطيع أن يفعل. ومع ذلك لا نملك إلا أن نتفاءل بمجيئه. ومن مبررات تفاؤلنا أمران في خطابه. الأول أنه خصّ بذكرٍ مميز العالم الإسلامي ودعاه الى الحوار. أليس في ذلك إيحاء بنهج جديد، يختلف عن نهج الاستعلاء والاستكبار الذي طال ما مارسه بعض قادة بلاده؟ وإن هو أغفل في خطابه الكلام الصريح بشأن فلسطين وإسرائيل، أفليس هو على علم ويقين بأن هذه القضية هي في قلب وضمير كل عربي ومسلم على وجه الأرض؟ وهل نسي أوباما أصله الإسلامي؟ أو ليس عنده رهافة الحس التي بها سيتعامل مع تلك القضية الشائكة؟
***
أما المبرر الثاني لتفاؤلنا فهو تشديد أوباما على القيم الأخلاقية والإنسانية والروحية، التي عليها يقيم بناء سياسته، فالصدق والمصداقية، والنزاهة والاستقامة والعدالة...هي التي طال ما افتقدها كثير من الزعماء والقادة، فجلب غيابها على الدول والشعوب الكثير من الأضرأر والأخطار، وليست الأزمة الاقتصادية العالمية اليوم بأقل مظاهرها. ولقد شدّد أوباما بنوع خاص على نبذ العنف والإرهاب والتسلط، فقوة السلاح ما حلّت يوما مشكلة، بل وحده الحوار والتفاهم، واحترام الآخر في حياته وحريته وسائر حقوقه، هي وحدها السبيل الى السلام: فالعراق لأهل العراق، وإيران طرف للحوار لا للقتال...أليس القول واضحًا لمن يريد أن يفهم، ولاسيما في القضية الفلسطينية الإسرائيلية ؟ وهل يمكن الظن أنه أغفل الكلام عنها صريحا لمجرد سهو أو نسيان؟ أم أن التلميح يأتي أبلغ من التصريح؟ أو ليس البطش والقوة الغاشمة هي في النهاية منتهى الضعف والجبانة؟ وما أصحَّ ما قال في ذلك "شاعر الأقطار العربية" خليل مطران:
يا لَلضعيفين استبدّا بي، وما ** في الظلم مثلُ تحَكُّم الضعفاءِ
وزميله "أمير الشعراء" أحمد شوقي:
ليس الصليب حديدًا كان، بل خشبا ** وان للحق لا للقوة الغلبا
***
نترحّم على جميع الضحايا في حرب الاثنين والعشرين يوما، مستودعين أرواحهم محبة "ابي المراحم"، طالبين لذويهم العزاء من الذي يبلسم قلوب محبيه، ويمسح عن كل وجه كل دمعة، ونرجو للجرحى الشفاء السريع الكامل. ونختم بالدعاء والصلاة أن يلهم الله الرئيس أوباما وكل شخص في موقع مسؤولية، تفهُّم وتحسس المسؤولية الحقة، والسعي الدؤوب الصادق لنزع البغض والحقد والكراهية من القلوب، ونشر التسامح والمحبة والسلام في العالم.
م