سورة الفتح
( 1 )
((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ)) يارسول الله ((فَتْحًا مُّبِينًا)) واضحاً، قالوا نزلت بعد أن رجع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الحديبية، والمراد أنه سيفتح له، فنُزل المضارع المحقق الوقوع منزلة الماضي، لأنه في كونه يقيناً مثل المستقبل، أو المراد أن الحديبية فتح، لأنها كانت سبب الفتح ومفتتحه.
سورة الفتح
(2)
وإنما فتحنا لك ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ)) على الفتح، ((وَمَا تَأَخَّرَ))، أي أن الفتح سبب لغفران كل الذنوب، والمراد به، أما ذنوبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند الكفار، فإنه كان عاقاً قاطعاً للرحم عندهم وقد قتل رجالهم وسبّ آلهتهم قبل الفتح وبعد الفتح، فإذا سُلّط عليهم غمضوا عن ذنوبه، كما هي العادة أن الإنسان إذا تسلّط غفر الناس ما يزعمون له من ذنوب، وأما المراد بالذنوب ما ذكروا من ذنوب الأنبياء من أنها تعد ذنوباً بالنظر الى الكمال الواقعي، يمنعه الإضطرار الى المأكل والمشرب وما أشبه، فهو نوع تواضع يرفع النقص الذي أُلجئ إليه إضطراراً، وأما المراد ذنوب الأمة فإن ذنب الأتباع يعد ذنب الرئيس - عُرفاً - فالجهاد يكميل للمضطر إليه، أو سبب غفران ذنب الأمة، ((وَ)) لـ((يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ)) بإعلاء الإسلام وضم السيطرة الى النبوة، ((وَ)) لـ((يَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)) فإن الهداية تتلاحق آناً بعد آن وفي حالة بعد حالة، مثلها مثل الحياة، ومثل ماء النهر، فكل خطوة بعدها إما هداية أو ضلال، لأنه إن مشى مستقيماً - بعد تلك الخطوة - فهو هداية وإلا كان ضلالاً، والفتح سبب الهداية، لأنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يمشي في البلد المفتوح بسيرة حسنة وهي هداية جديدة.
سورة الفتح
( 3)
((وَ)) لـ((يَنصُرَكَ اللَّهُ))، فإن الفتح سبب النصرة - وإن كان نفس الفتح أيضاً نصرة - ((نَصْرًا عَزِيزًا)) فيه عز ومنعة، فالفتح صار سبباً لأربعة أمور، غفران الذنب، وتمام النعمة، والهداية الجديدة، والنصرة العزيزة.
سورة الفتح
( 4)
وليشكر المؤمنون نعمة الفتح، فإن الله ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ)): الصفة الموجبة للسكون والطمأنينة ((فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ))، فإن تهيئة الإنسان للمقدمات توجب إفاضة الله للنتائج، كما أن تهيئة الزارع للزرع توجب إفاضة الله النبات، ولما إستعد المؤمنون للإطاعة بقتال الأعداء، ذهب منهم الخوف والإضطراب وصارت لهم الطمأنينة، مما أوجبت فتحهم السريع، ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا)) جديداً ((مَّعَ إِيمَانِهِمْ)) القديم، فإن سكون القلب يوجب التفكر حسناً ورؤية الأشياء كما هي الواقع، فيرون فضل الله عليهم وبذلك يزدادون إيماناً، ((وَ)) لا يزعم المؤمنون أنهم بدون فضل الله تمكنوا من الفتح، بل كان معهم جند الله، مثل إلقاء الرعب في قلوب الكافرين وإنزال السكينة في قلوب المؤمنين، إذ ((لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)): الجنود المادية والمعنوية، ((وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا)) يعلم كيف ينصر المسلمين على الكافرين، ((حَكِيماً)) يضع الأشياء موضعها فلما أن هيّء المسلمون أنفسهم للقتال، كانت الحكمة تقتضي نصرتهم، كما إن الأب الحكيم يمدّ ولده بالمال كلما رأى حسن طاعته له.
سورة الفتح
( 5)
وإنما فعل سبحانه ما فعل من النصرة للمؤمنين بعد أن أطاعوا أوامره ((لِـ)) يزيد ثوابهم فـ((يُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) - لأنهن أيضاً كَنّ مجاهدات - ((جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))، أي من تحت أشجارها، في حال كونهم ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أبداً، ((وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ))، أي يغطيها ويزيلها، فإن الجهاد سبب غفران الذنب، كما هو سبب رفع الدرجة في الجنة، فالمراد بإدخالهم الجنة في أثر الجهاد، الجنة الرفيعة التي لولا الجهاد لم يستحقوها، ((وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا)) لأنه منتهى رغبة الإنسان، أن يكون في لذة دائمة، ولعل ذكر "عند الله" للإفادة بأنهم في نعمة معنوية أيضاً، لأنهم يلتذون بأنهم قُرب الله سبحانه قُرباً معنوياً.
سورة الفتح
( 6)
((وَيُعَذِّبَ)) عطف على (يدخل)، أي أن الله نصر المؤمنين لأمرين: الأول، لأجل رفعة درجات المؤمنين في الآخرة، والثاني، ليزيد عذاب ((الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ)) لأنهم بنفاقهم في باب هذه النصرة زاد عذابهم في الآخرة، ((وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ)) لأنهم ببقائهم على الشرك ومحاربتهم للرسول زاد عذابهم، ((الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ)) حيث كانوا يظنون أن الله لا ينصر رسوله وأنه كذب سبحانه مع رسوله في ما وعده من النصرة، ((عَلَيْهِمْ)): على أولئك المنافقين والكفار ((دَائِرَةُ السَّوْءِ))، أي ما كانوا يظنونه من عدم النصرة حتى يسوء المؤمنون، دائر عليهم وحائق بهم، وسميت دائرة من دوران الفلك، فقد دارت دائرة سيئة بالنسبة إليهم، وقوله سبحانه "عليهم .." إما إخبار أو دعاء عليهم، ((وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)): قطعهم عن رحمته ((وَلَعَنَهُمْ)): أبعدهم عن كل خير، وذلك لأن الله تعالى لا يتغير حاله، ولا يعروه غضب ونحوه كما قرر في علم أصول الدين، ((وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا))، أي أن جهنم موضع سوء يصيرون إليه بعد موتهم.
سورة الفتح
( 7)
((وَ)) يؤكد سبحانه للمؤمنين وجوب إقدامهم في الحروب لأجل الإسلام، كرر سبحانه ((لِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) فالحر والبرد والمطر والريح من جنوده في السماء، والرعب في القلب والتشتت للشمل ونحوهما من جنوده في الأرض، إلى غيرهما من جنوده الكثيرة، ((وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا)) يقدر أن يفعل ما يريد لعزّته، ((حَكِيمًا)) يضع الأشياء موضعها، فإذا نصر المؤمنون دينه نصرهم.
سورة الفتح
(
ولما ذكر شيء من صفاته سبحانه ذكر بعض صفات رسوله القائد للمؤمنين ليعلم المؤمنون أن قائدهم صالح لقيادتهم إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة، ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ)) يارسول الله ((شَاهِدًا)) على الناس لتشهد على المؤمن بالإيمان وعلى الكافر بالكفر وعلى المنافق بالنفاق، ((وَمُبَشِّرًا)) تبشّر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، ((وَنَذِيرًا)) تنذر الكافرين والمنافقين بشر الدنيا والآخرة
سورة الفتح
( 9)
وإنما أرسلنا الرسول ((لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)) لأنه الدال إلى الله وإلى رسوله، ((وَتُعَزِّرُوهُ)) تقوّوه بالنصرة، وذلك بتقوية دينه ونصرة أحكامه، ((وَتُوَقِّرُوهُ)) تعظموه ((وَتُسَبِّحُوهُ))، ينزهوه عن الشريك وعن المناقص ((بُكْرَةً)): صباحاً ((وَأَصِيلًا)): عصراً.
سورة الفتح
(10)
وإذ عرف المسلمون الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حق المعرفة فاللازم أن يعرفوا أن بيعتهم له لازمة عليهم، لأن بيعته بيعة لله تعالى، فإذا نكث الإنسان بيعته - فبالإضافة إلى أنه خان الله ورسوله - كان ضاراً لنفسه، إذ فائدة البيعة تعود إلى نفس المؤمنين، ((إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ)) يارسول الله ((إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ))، إذ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ممثل الله تعالى، ((يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ))، فقد كان أسلوب البيعة أن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرفع يده ممدودة باطنها إلى الأرض وظاهرها إلى السماء، فيأتي المبايع فيُمِرّ باطن كفّه بكفّ الرسول مبتدءاً من رأس الخنصر منتهياً إلى رأس إبهام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هذه هي كيفية البيعة، وهي رمز أن البائع قد باع كل شيء له من نفس ومال وغيرهما للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال سبحانه (إنّ الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة)، وإتيان الصيغة باب المفاعلة، لأنه باع ما عنده ليأخذ بقدره من الجنة، فالبيع من الطرفين، وإذا أراد شخص نقض البيعة مع أمير أو ما أشبه، كان يُمرّ يده من رأس الإبهام إلى رأس الخنصر وكما يُستفاد من روايتين ذكرهما الفيض (رحمه الله) في الصافي، ويد الله كناية، مثل بيت الله وناقة الله، ((فَمَن نَّكَثَ)): نقض البيعة ((فَإِنَّمَا يَنكُثُ)) بما يعود ضرره ((عَلَى نَفْسِهِ))، لأنه إذا لم يتّبع سبيل الله إتّبع السُبُل المنحرفة التي في سلوكها الضلال والعذاب، ((وَمَنْ أَوْفَى))، أي وفّى، كلاهما بمعنى واحد كما قال سبحانه: (أوفوا بالعقود) وهل فائدة باب الأفعال الدلالة على كمال الوفاء تأكيداً له ((بِمَا))، أي بالذي ((عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ)) الله في الدنيا والآخرة ((أَجْرًا عَظِيمًا))، والسين لأجل أن الحصول على الفوائد الدنيوية لا يكون إلا متأخراً، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في بيعة الرضوان عام الحديبية، وقد كان تخلّف عن رسول الله في سفره إليها قبائل أسلم وجهينة ومزينة وغفار وغيرهم فإنهم بعد أن إستنفرهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إعتلوا بالشغل بأموالهم وأهاليهم، فنزلت فيهم هذه الآية.